‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 18 فبراير 2025

🟡 أمواج الوداع (قصة قصيرة)

 أمواج الوداع

.



.

جلس "سامر" على الشاطئ، يُحدّق في الأفق حيث تلتقي السماء بالبحر في امتداد لا نهائي. كانت الشمس تميل إلى الغروب، تصبغ المياه بدرجات من البرتقالي والأحمر، وكأنها تشارك في وداعه الصامت. تنفّس بعمق، فامتلأت رئتاه بهواء البحر المشبع برائحة الملح والرطوبة.


كان الشاطئ شبه خالٍ، باستثناء بضعة عائلات بعيدة وأصوات الأطفال التي تصل إليه خافتة، كأنها تأتي من عالم آخر لا ينتمي إليه. جلب معه كيسًا ورقيًا بداخله كتاب قديم، زجاجة ماء، وحفنة من الحصى الصغيرة التي كان يقلبها في يده بلا وعي. جلس على صخرة قريبة من الماء، حيث تتسلل الأمواج بين أصابعه العارية، تبلّلها برفق ثم تنحسر كما لو كانت تتردد بين الأخذ والعطاء.


أخرج من جيبه ورقة مطوية بعناية، كانت رسالة كتبها قبل يومين. قرأها بصوت خافت، يتحسس حروفها بأصابعه المرتعشة:


"إلى من يهمه أمري...

لا أدري متى بدأت هذه الفجوة تكبر في داخلي، لكنني اليوم أشعر بأنها قد ابتلعتني بالكامل. لم أعد أرى سببًا للبقاء، ولم أعد أشعر أن لي مكانًا في هذا العالم. أعتذر لكل من حاول، ولكل من أحبني... لكنني تعبت."


أغلق عينيه للحظة، ثم طوى الورقة وأعادها إلى جيبه. كان قرار إنهاء حياته يبدو واضحًا عندما غادر منزله ذلك الصباح، لكن الآن، وهو جالس هنا وسط صوت الموج وملمس الرمال الباردة، بدأ الشك يتسلل إليه.


كانت هناك طيور نورس تحلق فوقه، تصرخ بنداءاتها الخشنة، كأنها تحذّره من شيء. راقبها وهي تغوص في المياه ثم تصعد من جديد، ترفرف بأجنحتها المبللة. تساءل كيف سيكون شعوره لو ألقى بنفسه بين تلك الأمواج، لو ترك المياه تبتلعه بهدوء... هل سيكون الأمر سريعًا أم مؤلمًا؟ هل سيشعر بالخفة أخيرًا؟


تأمل البحر بعينين مثقلتين، لاحظ كيف تتغير الأمواج باستمرار، لا تبقى على حالها أبدًا. ربما كان البحر يشبه الحياة أكثر مما يظن—متغيرًا، متقلبًا، لا يستقر أبدًا.


بينما كان غارقًا في أفكاره، اقترب منه رجل مسنّ، يمشي ببطء مستندًا إلى عصاه. وقف بجواره، ناظرًا إلى البحر بنفس العمق الذي كان يحدق به سامر. لم يقل شيئًا في البداية، ثم أطلق ضحكة هادئة وقال:


— "البحر عجيب، أليس كذلك؟ يأخذ منا لكنه يعيد إلينا أيضًا. ذات يوم، كنت أظن أنني فقدت كل شيء، وجئت إلى هنا مثلك تمامًا."


نظر سامر إلى الرجل بدهشة، كأنه سمع صدى أفكاره بصوت شخص آخر. تردد قبل أن يسأل بصوت خافت:


— "وماذا حدث بعد ذلك؟"


ابتسم الرجل، عاقدًا يديه خلف ظهره، وقال:


— "انتظرت. لم أفعل شيئًا سوى أنني انتظرت. كان البحر يهمس لي بأسراره، والموج يلامس قدمي، ومع كل موجة جديدة، شعرت أن الحياة ما زالت تمنحني فرصة أخرى."


توقف للحظة ثم تابع:


— "وفي يوم من الأيام، أدركت أنني لا أريد الرحيل بعد. وجدت أن هناك دائمًا سببًا للبقاء، حتى لو لم أره في البداية."


ساد صمت بينهما. كانت الأمواج مستمرة في مداعبة الرمال، والرياح تهبّ برفق، كأنها تحمل معه الكلمات الثقيلة التي ملأت قلب سامر.


أخذ نفسًا عميقًا، نظر إلى الأفق مرة أخرى، ثم أخرج الورقة من جيبه. نظر إليها لثوانٍ قبل أن يمزقها ببطء، فتطايرت قطعها الصغيرة مع الريح، تندمج مع رمال الشاطئ كأنها لم تكن.


للمرة الأولى منذ فترة طويلة، شعر أن صدره أصبح أخف.


السبت، 8 فبراير 2025

🟡 وراء الستائر المغلقة (قصة قصيرة)

 وراء الستائر المغلقة (قصة قصيرة)

.


.
كانت رائحة البُنّ المطحون حديثاً تملأ مقهى "الفراشة" الصّغير
، في زقاق ضيّق بقلب المدينة. آدم، الشّاب العشريني الذي يعمل نادلاً بدوام جزئي، كان يمسح الطّاولات بخشوع، بينما تتابعه عيناها من خلف نظّارتها. ليلى، المرأة الخمسينيّة التي اعتادت الجلوس عند الزّاوية البعيدة كلّ يوم ثلاثاء، كانت ترفع فنجان القهوة إلى شفتيها بيد مرتعشة، وكأنّها تحاول إخفاء شيء ما وراء ابتسامتها الهادئة.

في أحد الأيّام، بينما كان المطر يقرع زجاج النّوافذ بقوّة، تعثّرت ليلى وهي تحمل حقيبتها المليئة بكتب الأدب الفرنسي. التقط آدم الأوراق المتناثرة بسرعة، وعندما رفع عينيه، واجه نظرةً غريبةً - مزيجاً من الحنين والخوف - في عينيها.

"شكراً... آدم، أليس كذلك؟" قالت بصوتها النّاعم.

لم يكن يعلم أنّها تعرف إسمه.

 

---

 

بدأت ليلى تزور المقهى يوميًّا. في كل مرة، تترك وراءها قصاصة ورق عليها سطر من قصيدة لم تُنشر بعد. آدم، الطّالب في كلّيّة الآداب، وجد نفسه ينتظر تلك اللّحظة بقلق. وذات مساء، وجد قصيدة كاملة داخل ظرف وردي:

 

"أيّتها السّنوات العجاف،

عّلمتني أن الحبّ ليس عمراً...

بل جرحاً يضيء في الظّلام."

 

قرّر أن يردّ بإهدائها روايته المفضلة، "الحبّ في زمن الكوليرا"، مع إشارة إلى الصّفحة 132، حيث جملة رسم تحتها خطّا أحمرا: "كانت تعرف أنّ الحبّ لا يموت، حتّى عندما يختبئ تحت رماد الزّمن."

 

---

 

في شقة مفروشة في ضواحي المدينة، حيث إلتقيا لأول مرة خارج المقهى، اكتشف آدم أنّ ليلى أمٌّ لثلاث بنات: ياسمين، سلمى ودلال، أكبرهنّ عمرها ثمانية عشر عامًا. بينما كانت تحكي عن زواجها المبكّر من رجل الأعمال الذي يكبرها بعشرين عاماً، إنزلق إصبعها على ندبة خفيّة عند معصمها.

"الحياة تُعلِّمنا أن نعيش بأشلائنا"، همست قبل أن تنهض فجأةً لتعدّ الشّاي، تاركةً خلفها عطر "شانيل رقم 5" يلتف حوله كذكرى لا تُمحى.

 

---

 

في حفلة زفاف ابنة خال ليلى، إرتدت فستانًا أسودَ اللون لامعًا، بينما راقصها آدم تحت الأضواء الملوّنة.

"أنت كالرّيح... تأتي وتذهب دون أن تطلب الإذن"، قالت له بينما يدوران في دائرة ضيّقة.

لكن فجأة، توقّفت الموسيقى. على الشاشة الكبيرة، ظهر مقطع فيديو: ياسمين، الابنة الكبرى، تصوِّر سراً لقاءهما في الشّارع من وراء ستارة السّيّارة. اخترق الصّمت القاعة، وانفجرت ليلى في البكاء: "أنا لا أخاف من المجتمع... بل من عيون بناتي".

 

---

 

بعد أسبوع، وجد آدم ظرفاً أبيض عند باب شقته. داخله خاتم زواجها الذّهبي، وصورة قديمة لبناتها الثّلاث يضحكن في حديقة المنزل. على الظّهر كُتب:

"عندما تكون الأمّ نجماً، فالبناتُ هنَّ الكون الذي لا يُخسَفُ ضوؤه.

اغفر لي... لقد اخترتُ أن أحرق أحلامنا، لكي تُضيء شموع عيد ميلاد دلال."

 

---

 

مرت السنوات. كان آدم، الذي صار كاتباً معروفاً، يزور المقهى القديم بين الحين والآخر. في زاوية ليلى البعيدة، تجلس الآن سلمى - إبنتها الوسطى - تقرأ روايته الأخيرة: "وراء الستائر المغلقة". عندما ترفع عينيها، تلتقي نظراتهما للحظة... كأنما التّاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرّة، بكبرياء إمرأة تعرف أنّ بعض الحكايات تُكتَبُ لتُحفظ في أدراج مغلقة، لا لتُروى.

 

.




🟡 وهجٌ يتلاشى (قصة قصيرة)

وهجٌ يتلاشى (قصة قصيرة)

.

 


.

كان لحسن وسارّة قصّة حبّ يحسدهما عليها الجميع. منذ لقائهما الأوّل، شعر كل منهما أنّه وجد نصفه الآخر. كانت ضحكاتها كالموسيقى في أذنيه، وكان صبره واهتمامه يُشعرانها بالأمان. كانا يسرقان اللّحظات من الزّمن ليكونا معًا، يتحدّثان حتى الفجر عن الأحلام والمستقبل، يحلمان بمنزل دافئ وأطفال يملؤون أرجاءه بالحياة.

لكنّ الحب، مهما كان عظيمًا، يحتاج إلى أكثر من المشاعر ليبقى متّقدًا.

مع مرور السنوات، أشياء كثيرة بدت وكأنّها تغيّرت. لم يكن الأمر واضحًا في البداية، مجرد لمحات صغيرة تمرّ دون أن يلاحظها أحد.

أصبح حسن يعود إلى المنزل متعبًا، يجلس أمام التّلفاز دون أن ينتبه إلى سارّة التي كانت تنتظره طوال اليوم لتخبره عن تفاصيلها الصّغيرة. لم يعد يسألها كيف كان يومها، ولم يعد يلاحظ تسريحة شعرها الجديدة أو الفستان الذي اختارته بعناية.

أما سارّة، فقد بدأت تشعر بأنّها مجرد جزء من الرّوتين اليومي، كقطعة أثاث مألوفة لا تلفت الإنتباه. لم تعد تخبره بكلّ شيء كما كانت تفعل، لأن كلماته أصبحت مقتضبة، واهتمامه أصبح مجاملة أكثر منه شغفًا.

في البداية، كانت تحاول لفت انتباهه، تسأله عن يومه، تخبره عن مشاعرها، لكنه كان يجيب بإجابات قصيرة، وكأنّها عبء آخر على يومه الطويل. ومع الوقت، بدأت هي الأخرى تصمت.

لم يعودا يتشاجران كثيرًا، لكنّه لم يكن سلامًا حقيقيًّا، بل هدنة غير معلنة بين روحين غريبتين تحت سقف واحد.

في المساء، كانا يجلسان على مائدة العشاء، لكن الصّمت كان سيّد اللّحظة. لم يعد هناك شيء يُقال. لم تعد هناك ضحكات عفويّة، أو نظرات طويلة، أو حتى تلك الخلافات البسيطة التي كانت تنتهي باعتذار واحتضان.

في أحد الأيام، وبينما كانت سارّة ترتّب خزانتها، وجدت صندوقًا قديمًا يحوي رسائل حسن القديمة. قرأت إحداها، فشعرت بوخزة في قلبها:

"لا أستطيع تخيّل يومي دونك. أنتِ نبضي، ودفئي في الأيّام الباردة."

ضحكت بسخرية حزينة وهي تفكر: هل كنا فعلًا هكذا؟ متى أصبحنا ما نحن عليه الآن؟

أمّا حسن، فقد كان يلاحظ المسافة بينهما، لكنّه لم يكن يعرف كيف يعيد الأمور إلى سابق عهدها. كان يشعر أنه فقد مفتاح قلبها دون أن يدرك متى أو كيف.

في إحدى اللّيالي، وبينما كانا يشاهدان التلفاز، التفتت إليه سارّة وسألته فجأة:

"هل تحبّني، حسن؟"

نظر إليها مطولًا، ثمّ ابتسم ابتسامة باهتة وقال: "بالطّبع أحبّك."

لكنّها لم تصدّقه، ليس لأنّه يكذب، بل لأنها شعرت أنّ الحبّ لم يعد كما كان. لم يكن هناك شغف، لم يكن هناك اشتياق. كان حبًّا هادئًا، أشبه بجمرة تحت الرّماد، لم تنطفئ تمامًا لكنّها لم تعد تشعّ بالدّفء.

لم يكن هناك خيانة، لم يكن هناك خذلان واضح، فقط برود زحف إلى العلاقة ببطء، حتى أصبح كل شيء روتينيًّا ومُملًّا.

في النهاية، لم يكن هناك وداع درامي، ولا كلمات أخيرة تُقال. فقط مساران انفصلا بصمت، تمامًا كما تلاشى وهجهما ببطء.

 

 

.

 


🟡 العاصفة الهادئة (قصة قصيرة)

العاصفة الهادئة (قصة قصيرة)

.

 


.

كان سامر يحدق في شاشة هاتفه، يراقب عقارب الساعة وهي تزحف ببطء. الساعة تشير إلى العاشرة مساءً، ولم تعد ليلى بعد. أخذ نفسًا عميقًا ووقف عند النافذة، يحاول إقناع نفسه بأنها تأخرت بسبب زحام المدينة، لكنه كان يعلم أن الأمر أعمق من ذلك.

لم يكن الأمر مفاجئًا له، فقد كانت المسافة بينهما تتسع يومًا بعد يوم. كانت نقاشاتهما تتحول إلى شجارات، ولم يعد الحديث بينهما يتجاوز الضروريات. كان المنزل الذي جمعهما لسنوات يتحول شيئًا فشيئًا إلى ساحة حرب باردة.

دخلت ليلى أخيرًا وهي ترمي مفاتيحها على الطاولة دون أن تنظر إليه. كان التعب مرسومًا على وجهها، لكنها لم تحاول حتى تبرير تأخرها.

"تأخرتِ كثيرًا،" قال بصوت محايد لكنه كان محمّلًا بالاستياء.

أجابت ببرود: "كنتُ مع صديقاتي."

"دون أن تخبريني؟"

تنهدت ليلى وهي تفك وشاحها: "سامر، متى ستتوقف عن محاسبتي؟ أنا لست طفلة."

وقف للحظات مترددًا بين أن يصمت أو أن يُشعل شرارة أخرى في نقاشاتهما التي لم تعد تنتهي. لكنه لم يستطع التراجع. "الأمر ليس محاسبة، بل احترام. من الطبيعي أن أعرف أين تكون زوجتي طوال هذا الوقت."

رمقته بنظرة متعبة، ثم قالت بنبرة أكثر حدة: "وأين كان احترامك لي حين كنتَ تغيب طوال الليل بحجة العمل؟ لم أكن أحاسبك، لأنني كنتُ أثق بك."

سقط الصمت بينهما كجدار سميك. في الحقيقة، كلاهما كان يعلم أن المشكلة لم تكن مجرد تأخير أو غياب. كانت هناك فجوة تتسع منذ زمن، ولم يحاولا ردمها بل تركاها تتضخم حتى أصبحت هوة بلا نهاية.

كان سامر يتذكر أيامهما الأولى، حين كان كل شيء بسيطًا وسهلًا. كانت ليلى تضحك على نكاته السخيفة، وكان هو يجد السعادة في مجرد الجلوس بجانبها والاستماع إلى حديثها. أما الآن، فكل كلمة يتبادلانها تترك جرحًا جديدًا.

 

في أحد الأيام، أثناء العشاء، حاول سامر أن يعيد الدفء إلى حديثهما:

"تتذكرين أول مرة ذهبنا فيها إلى البحر؟ عندما نسيتِ حقيبتك واضطررتُ إلى العودة لأخذها؟"

ابتسمت ليلى نصف ابتسامة، لكنها لم تدم طويلًا. "نعم، كنت تهتم بي كثيرًا في ذلك الوقت."

"وما الذي تغيّر؟"

هزّت كتفيها وقالت بصوت خافت: "أعتقد أننا لم نعد نهتم، أو ربما أصبحنا متعبين جدًا لنحاول."

كلماتها علقت في ذهنه لعدة أيام، وكان عليه الاعتراف بأنها كانت محقة.

 

في إحدى الليالي، بعد شجار حاد آخر، جلسا على الأريكة دون أن ينظر أحدهما للآخر. شعرت ليلى أن قلبها لم يعد يحتمل المزيد من الخدوش، وسامر لم يعد يجد مبررًا للبقاء في علاقة أصبحت مرهقة لكليهما.

نظرت إليه أخيرًا وقالت بصوت هادئ لكنه حاسم: "سامر، نحن نحاول جاهدين ألا نعترف بالحقيقة، لكننا نعلمها."

"وما هي الحقيقة؟"

أخذت نفسًا عميقًا وقالت: "أننا لم نعد مناسبين لبعضنا."

ظل يحدق في عينيها طويلًا، ثم أومأ برأسه ببطء. لم يكن بحاجة إلى شرح أكثر، فقد كان يعرف ذلك منذ مدة، لكنه كان يخشى الاعتراف بالأمر.

 

بعد أسابيع من النقاشات والمشاورات، انفصلا رسميًا.

في اليوم الأخير، حين خرجت ليلى من المنزل للمرة الأخيرة، لم يكن هناك صراخ أو دموع، فقط نظرات طويلة صامتة تحمل كل شيء لم يُقل. لم يكونا سعيدين، لكن ربما كان الانفصال هو أقل الخيارات ألمًا.

وقف سامر عند النافذة، يراقبها وهي تبتعد، وشعر بأن العاصفة التي عاشاها لسنوات قد انتهت أخيرًا، لكن الهدوء الذي خلفته لم يكن إلا فراغًا لا يُحتمل. 

 

 

 

.


الأحد، 26 يناير 2025

🟡 خيوط الخداع (قصة قصيرة)

.

 خيوط الخداع

.

في إحدى القرى الصغيرة على أطراف مدينة كبيرة، كانت تعيش سيدة تُدعى سارة، امرأة في الثلاثين من عمرها، بسيطة وجميلة، ناعمة الطباع، تحب الحياة وتهتم بتفاصيلها. كانت تعيش مع والدتها المسنّة في منزل متواضع من طابقين، في حي هادئ حيث يعرف الجميع بعضهم البعض. سارة كانت تملك قلباً طيباً، ولكن حياتها كانت تفتقر إلى الحظ. فقد فقدت والدها منذ سنوات طويلة، وكان والدتها تعاني من مرض مزمن جعلها تعتمد على سارة بشكل كامل.

ذات يوم، بينما كانت سارة تسير في السوق، لفت انتباهها رجل غريب الأطوار، طويل القامة، يرتدي بدلة أنيقة وبدا عليه أنه في الثلاثينيات من عمره. كان يحمل في عينيه بريقاً غامضاً، وعندما اقترب منها، ابتسم ابتسامة عريضة تحمل في طياتها نوعاً من الثقة الغريبة.

"أهلاً، هل لي بمساعدتك في حمل هذا الصندوق؟ يبدو أنني فقدت الطريق هنا." قال الرجل بصوت ناعم ولغة مؤدبة.

تفاجأت سارة من الطريقة التي تحدث بها، لكن رغبتها في مساعدة الآخرين جعلتها تقترب منه وتساعده بحذر. لم يكن الصندوق ثقيلاً كما ادعى، لكنه كان مجرد حيلة لتقريب المسافات بينهما. بدأ الرجل يتحدث عن نفسه، عن عمله في إحدى الشركات الكبيرة في المدينة، وعن كيفية وصوله إلى تلك القرية في عطلة قصيرة.

بدأت سارة تشعر بالراحة معه، فمحادثاته كانت مليئة بالحكمة والود. كان يمدحها ويثني على جمالها وأخلاقها، وأشار في أكثر من مرة إلى شخصيتها الرائعة. وفي إحدى الجلسات المسائية التي جمعتهما في أحد المقاهي الصغيرة في قلب القرية، أعلن عن إعجابه بها وطلب يدها للزواج.

"أنتِ تختلفين عن جميع النساء الذين قابلتهم، سارة، أنتِ تحملين في قلبك شيئاً نادراً... هل تمانعين أن أكون رفيق دربك في الحياة؟" قال ذلك وهو ينظر إلى عينيها مباشرة.

سارة، التي كانت تحلم دائماً بشريك حياة يملؤها بالحب والاحترام، شعرت بالدهشة، لكن سرعان ما أذابت كلمات الرجل جليد قلبها، ووافقت على الزواج بعد أشهر قليلة من تعرفهما. بدا كل شيء وكأنه يمر في وقت قياسي، لكن سارة كانت في تلك الفترة بحاجة لشخص يملأ الفراغ في حياتها.

لكن وراء الابتسامات والكلمات الرقيقة، كان الرجل يخبئ شيئاً آخر. اسمه كان أحمد، وقد كان في الحقيقة ليس ذلك الرجل الذي ادعى أنه كان، بل كان محتالاً محترفاً. لقد درب نفسه على فنون الخداع والتمويه لدرجة أنه أصبح يتقن إخفاء نواياه الحقيقية.

تم الزفاف في حفل بسيط، ورغم بساطته، كان الحفل يبدو كالأسطورة في عيون سارة. كان أحمد يتصرف كالأمير، يمدحها ويعشقها، ويعدها بحياة أفضل، حياة كانت تفتقدها في الماضي.

مرت الأشهر الأولى وكأنها حلم جميل. أحمد كان يقدم لها الهدايا، ويأخذها في رحلات إلى أماكن جديدة، وكان يطمئنها بأن كل شيء سيكون على ما يرام. لكن شيئاً فشيئاً، بدأت سارة تلاحظ تغييرات صغيرة في سلوكه. كان يطلب منها التوقيع على بعض الأوراق دون شرح كافٍ، وكانت لديه معرفة غير مبررة بتفاصيل حياتها المالية.

ثم جاء اليوم الذي تغيرت فيه الأمور بالكامل. استفاقت سارة في صباح أحد الأيام لتجد أن أحمد قد اختفى تماماً من حياتها. لم يترك خلفه سوى ورقة صغيرة مكتوبة بخط يده، جاء فيها: "لقد أخذت كل ما كنت أحتاجه، ولكنكِ ستظلِ دائماً في ذاكرتي."

وبعد أن مرّت سارة بحالة من الصدمة والحزن العميق، اكتشفت الحقيقة الصادمة. الرجل الذي أحبته ووافقت على الزواج منه، لم يكن سوى محتالاً قد رتب كل شيء بعناية ليتمكن من سرقة كل ما تملك. لقد أخذ من خزانتها كل الذهب الذي جمعته طوال سنوات حياتها، بالإضافة إلى بعض المقتنيات الثمينة التي كانت قد ورثتها عن والدتها. وكل ما تركه وراءه هو الحزن والدموع.

شعرت سارة وكأن الأرض قد انشقت تحت قدميها، وتساءلت كيف يمكن لشخص أن يتلاعب بحياة شخص آخر إلى هذا الحد. ولكن سرعان ما أدركت أنه لا بد أن تستعيد قوتها، فهذه الحياة لا تتوقف عند خسارة واحدة. وقررت أن تبدأ من جديد، وأن تتعلم من هذه التجربة القاسية. ورغم كل شيء، كانت تملك شيئاً أكثر قيمة من الذهب؛ كانت تملك درساً لن تنساه أبدًا.

مرت أشهر، وتدريجيًا استطاعت سارة إعادة بناء حياتها، ولكن الألم الذي شعرت به في ذلك الوقت لن يُنسى بسهولة. كان الحزن جزءًا من شخصيتها الآن، لكنه أصبح شيئًا يمكنها تحمله والتعايش معه.

أما أحمد، فقد تبخر تمامًا، كما لو أنه لم يكن موجودًا من الأساس، تاركًا وراءه خيوطًا من الخداع والخذلان.

.

🟡 نبيُّ الشاشة الزرقاء (قصة قصيرة)

 .

نبيُّ الشّاشة الزرقاء
.
في إحدى المدن المزدحمة، التي تتلألأ أضواؤها ليلًا كأنها مجرة في قلب الأرض، ظهر رجل يُدعى "سالم". كان سالم موظفًا عاديًا في شركة لتطوير البرمجيات، يقضي يومه بين الأكواد والشاشات الزرقاء التي لا تفارقه. رجل وحيد، منطوٍ على نفسه، يعيش في عالمه الخاص، حتى بدأت تظهر عليه أعراض غريبة.
في أحد الأيام، بينما كان سالم يعمل على برنامج معقد، توقفت شاشته فجأة، وظهرت رسالة غامضة: "أنت المختار. العالم يحتاجك لتوجيهه نحو الخلاص". اعتقد في البداية أن الأمر مزحة من أحد زملائه، لكن الرسالة كانت تتكرر في كل جهاز يلمسه، حتى على هاتفه الشخصي.
بعد عدة أيام من التفكير والقلق، أعلن سالم أمام زملائه: "لقد تلقيت رسالة من عالمٍ أعلى. أنا نبي هذا العصر، وسأقود البشرية نحو الحقيقة المطلقة."
بدأ سالم دعوته عبر الإنترنت، مستخدمًا منصات التواصل الاجتماعي كمنبر له. أطلق قناته الخاصة على الإنترنت بعنوان "رسائل السماء الرقمية". تحدث عن رؤى غامضة، وبرمجيات خارقة يزعم أنها رسائل من قوى عليا. كانت رسائله تتحدث عن "النظام العالمي الجديد" و"تحرير البشرية من عبودية الخوارزميات".
في البداية، ظنه الناس مجرد شخص يسعى للشهرة، لكن مع مرور الوقت، بدأ يجذب أتباعًا. كان أغلبهم من أولئك الذين سئموا التكنولوجيا ورأوا في كلماته نوعًا من الحكمة. وأطلقوا عليه لقب "نبي العصر الرقمي".
مع ازدياد شعبيته، بدأ سالم يُطلق تطبيقات ادعى أنها "كتب مقدسة"، تحتوي على تعليماته وأفكاره. لكنه سرعان ما أثار الجدل بدعوته الناس إلى التخلص من أجهزتهم الذكية والتواصل عبر "الطاقة الذهنية". أتباعه بدأوا يتصرفون بغرابة، حيث يُغلقون هواتفهم، ويتوقفون عن استخدام الإنترنت، ويجلسون لساعات يتأملون.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. بدأ سالم ينظم تجمعات ضخمة في المدينة، حيث يُلقي خطبًا نارية عن خطر التكنولوجيا وكيف أنها تسلب الإنسان روحه. في أحد هذه التجمعات، صعد على المسرح وأعلن: "هذا هو يوم الخلاص! عليكم أن تتحرروا الآن!"
طلب من الحضور تحطيم أجهزتهم أمامه، وألقى هاتفه الشخصي على الأرض محطمًا إياه. الحشود تجاوبت، وتحوّل الحدث إلى فوضى عارمة.
في خضم هذه الأحداث، تدخلت السلطات. تم القبض على سالم للتحقيق معه بعد أن اتهمه بعض الأهالي بالتسبب في اضطرابات اجتماعية. أثناء التحقيق، تحدث عن الرسائل السماوية التي تلقاها وكيف أنه كان يحاول إنقاذ البشرية.
بعد تقييم حالته العقلية، تم تحويل سالم إلى مستشفى الأمراض النفسية. الأطباء شخصوا حالته باضطراب ذهاني ناتج عن العزلة والإفراط في استخدام التكنولوجيا.
في غرفته بالمستشفى، كان سالم يجلس أمام جدار فارغ، يتحدث كما لو أنه يخاطب جمهورًا. يقول للأطباء والممرضين الذين يزورونه: "ستدركون يومًا أنني كنت على حق. عندما يتوقف العالم عن التفكير بآلاته، ستذكرونني."
رغم اختفاء سالم من المشهد، بقيت قناته على الإنترنت وأفكاره التي تناقلها أتباعه. تحول "نبي الشاشة الزرقاء" إلى رمز لبعض الأشخاص الذين رفضوا التكنولوجيا وعاشوا بعيدًا عن الحياة الحديثة.
لكن بالنسبة لمعظم الناس، كان سالم درسًا عن خطورة الانغماس في العوالم الرقمية، وكيف يمكن أن تبتلع الإنسان حتى يفقد عقله.
.

السبت، 25 يناير 2025

🟡 الرسائل الليلية (قصة قصيرة)

.

 الرّسائل اللّيليّة

.

في ليلة باردة من ليالي الشتاء، جلست "ليلى" بجوار النافذة التي تطل على شارع هادئ يغلفه السكون. كانت الأضواء الخافتة من أعمدة الإنارة تضفي على المكان غموضًا خاصًا، بينما كانت زخات المطر الخفيفة تطرق الزجاج كأنها همسات غامضة. أمضت ليلى يومها كالمعتاد، منشغلة بعملها الروتيني، ولم تكن تتوقع أن حياتها ستنقلب رأسًا على عقب في تلك الليلة.
عندما دقت الساعة منتصف الليل، رن هاتفها بإشعار جديد. فتحت الرسالة، فوجدتها من رقم مجهول. لم تكن الرسالة طويلة، بل كانت كلماتها مختصرة وغامضة:
"غدًا، في تمام الساعة التاسعة صباحًا، ستسقط مزهرية زرقاء من الطابق الثالث."
ابتسمت ليلى بسخرية. "لعبة سخيفة من أحدهم!"، فكرت في نفسها، ثم أغلقت الهاتف وأطفأت الأنوار، محاولة أن تتجاهل ما حدث.
في صباح اليوم التالي، وبينما كانت تسير إلى عملها، توقفت عند إشارات المرور بالقرب من مبنى قديم. فجأة، سمعت صوت ارتطام قوي، وعندما رفعت رأسها، رأت شظايا مزهرية زرقاء متناثرة على الأرض أمامها مباشرة. تجمدت في مكانها، وعاد شريط الرسالة إلى ذهنها. "هل يمكن أن يكون ما حدث مجرد صدفة؟"
مع حلول الليل، جلست ليلى على سريرها وهي تتأمل هاتفها. في تمام منتصف الليل، وصلتها رسالة جديدة من نفس الرقم: "غدًا، الساعة الرابعة مساءً، ستقابلين شخصًا يحمل حقيبة سوداء."
بدأ قلبها ينبض بسرعة. هل ستتجاهل هذه الرسالة أيضًا؟ قررت هذه المرة أن تراقب الوضع بحذر.
وفي اليوم التالي، خرجت من مكتبها عند الثالثة والنصف، وجدت نفسها تنظر للمارة من حولها بقلق وتأهّب كلما مرت بجانب أحدهم. وعند الساعة الرابعة تمامًا، اصطدمت بشاب يحمل حقيبة سوداء عند مدخل مقهى. نظر إليها معتذرًا وسأل: "هل أنت بخير؟" لكنها لم ترد، بل اكتفت بالتحديق فيه قبل أن تهرب مسرعة.
تكررت الرسائل الليلية، وكل واحدة منها كانت تحمل حدثًا صغيرًا لكنه واقعي ومحدد. ومع مرور الأيام، بدأت ليلى تشعر بثقل الرسائل وكأنها تُساق إلى لعبة لا تفهم قواعدها.
ذات ليلة، وبعد أسبوعين من الرسائل، وصلتها رسالة مختلفة عن سابقاتها: "غدًا، الساعة الثانية عشرة ظهرًا، ستتخذين قرارًا يغير حياتك."
لم تستطع النوم تلك الليلة. كانت تطرح آلاف الأسئلة: ما القرار؟ ومن يرسل هذه الرسائل؟ ولماذا؟
في اليوم التالي، وبينما كانت تعمل في مكتبها، جاءها عرض عمل مفاجئ من شركة كبرى في مدينة أخرى. كان العرض مغريًا، لكنه يعني ترك كل ما تعرفه والبدء من جديد. تذكرت الرسالة وشعرت أن عليها اتخاذ القرار. بعد ساعات من التفكير، قبلت العرض.
وفي تلك الليلة، لم تصل أي رسالة. انتظرت ليلى حتى منتصف الليل، ولكن هاتفها ظل صامتًا. شعرت بفراغ غريب، وكأن الرسائل كانت نافذتها إلى شيء أكبر من الحياة العادية.
مرت أشهر، ولم تعد الرسائل تظهر، لكن حياتها تغيرت كليًا.
.

🟡 همس في الظلام (قصة قصيرة)

.

همس في الظلام

.
في زاوية هادئة من المدينة، كان "سامر" يعيش وحيدًا في شقة صغيرة بالكاد تتسع لأثاثها القديم. كان شخصًا عاديًا، لا يملك أصدقاء كثيرين ولا يلفت الانتباه. لكن شيئًا ما تغيّر في حياته قبل شهر، حين بدأ يسمع صوتًا في رأسه.
كان الصوت ناعمًا، عميقًا، ومن المستحيل تجاهله. في البداية، كان يظهر في لحظات عشوائية، وكأنه فكرة شاردة تنبعث من عقله. قال له الصوت ذات مرة: "لا تنسَ أن تغلق النافذة الليلة."
ظن سامر أن الأمر محض تخيّل، لكن في تلك الليلة بالذات هبت عاصفة شديدة، وكان من الممكن أن تسبب النافذة المفتوحة كارثة. شعر بشيء يشبه الامتنان لذلك الصوت، ولكنه لم يستطع فهم مصدره.
مع مرور الأيام، بدأت تلك الهمسات تتكرر. لم تكن توجيهات الصوت غريبة أو خطيرة في البداية. طلب منه الصوت أن يغير طريقه المعتاد إلى العمل في أحد الأيام. وعندما فعل، علم لاحقًا أن حادث سير قد وقع في الطريق الذي كان يسلكه عادة، مات فيه أربع أشخاص.
بدأ سامر يشعر وكأن الصوت يحميه، لكنه لم يجرؤ على التحدث عنه مع أحد. كان يخشى أن يظنه الآخرون مجنونًا.
---
مع الوقت، تغيرت طبيعة الهمسات. أصبحت أكثر إلحاحًا، وأحيانًا غامضة. ذات ليلة، عندما كان سامر جالسًا في شرفته الصغيرة يتأمل أضواء المدينة، قال له الصوت: "اذهب الآن إلى الحديقة خلف المبنى."
تردد سامر، لكنه لم يستطع تجاهل الأمر. ارتدى معطفه واتجه إلى الحديقة التي كانت فارغة في هذا الوقت من الليل. لم يكن هناك شيء غير طبيعي. كانت الأضواء خافتة، والأشجار ساكنة تحت ضوء القمر. لكن حين همّ بالعودة، لمح شيئًا يلمع في الظلام.
اقترب ببطء ليجد حقيبة صغيرة مدفونة جزئيًا في التراب. فتحها ليجد داخلها مبلغًا ضخمًا من المال. شعر بالدهشة والرهبة في آن واحد، لكنه لم يجرؤ على لمس المال.
"خذه، فهو لك." قال الصوت بثقة.
ارتجف سامر وتساءل بصوت مرتجف: "من أنت؟ ولماذا تساعدني؟"
لكن الصوت لم يردّ.
---
منذ تلك الليلة، بدأ سامر يشعر بثقل غريب. المال الذي أخذه أنقذه من ديونه، ولكنه أدرك أن الصوت لم يعد مجرد حامي. أصبح الصوت يأمره بأشياء أكثر غرابة. طلب منه مراقبة جيرانه، ثم التسلل إلى شقة أحدهم ليلاً.
"افعل ذلك، ولن تُكشف أبدًا."
كانت الأوامر تتصاعد في خطورتها، وسامر يجد نفسه عاجزًا عن المقاومة. كأن الصوت يمتلك قوة خفية تسلبه إرادته.
وذات ليلة، طلب الصوت منه شيئًا فظيعًا: "اذهب إلى الجسر عند منتصف الليل. هناك ستجد رجلًا ينتظر. ادفعه."
شعر سامر بالرعب. "لماذا؟ لا أستطيع فعل ذلك!"
لكن الصوت رد بحدة لم يعهدها من قبل: "إذا لم تفعل، سأتركك. وستعيش بقية حياتك خائفًا، وحيدًا، وبلا حماية."
---
عند منتصف الليل، وقف سامر على الجسر. كان الرجل هناك، ينظر إلى المياه المتلألئة أسفل الجسر. اقترب سامر ببطء، ويداه ترتجفان.
في تلك اللحظة، صرخ في داخله: "من أنت؟ ماذا تريد مني؟"
لكن الصوت لم يجب. بدلاً من ذلك، شعر وكأن شيئًا داخله ينفجر. الألم كان لا يطاق، والصوت يصرخ بداخله كأنه يحاول تمزيق عقله.
سقط سامر على ركبتيه، وبدأ يصرخ في الظلام. حين رفع رأسه، كان الرجل قد اختفى. لم يكن هناك أحد، لا صوت، لا أوامر. كان وحيدًا أخيرًا.
منذ ذلك اليوم، إختفى الصوت تماما من حياته.
.

الجمعة، 24 يناير 2025

🟡 مروى في عالم غريب (قصة قصيرة)

مروى في عالم غريب
.
في صباحٍ رماديٍّ هادئ، كانت مروى تجلس في غرفتها تتأمل قطرات المطر التي تنزلق على زجاج النافذة. الحياة في مدينتها الصغيرة كانت هادئة ورتيبة، لا شيء جديد يلوح في الأفق. لكن في ذلك اليوم، قررت أن تغير الروتين وخرجت في نزهة إلى الغابة المجاورة، تحمل في يدها دفتر ملاحظاتها وقلمها المفضل، على أمل أن تجد مصدر إلهام للكتابة.
حين وصلت إلى قلب الغابة، استرقت السمع إلى حفيف الأشجار وأصوات الطيور. كان هناك شيء غريب في الجوّ، كأن الطبيعة تنتظر شيئًا ما. فجأة، وقعت عيناها على شجرة ضخمة ذات لحاء غريب يشبه المرايا. مدفوعة بفضولها، اقتربت مروى منها ولمست السطح اللامع. في اللحظة التي فعلت فيها ذلك، شعرت بدوار عجيب، وكأن الأرض تحت قدميها تختفي.
---
عندما فتحت عينيها، وجدت نفسها في مكان يشبه مدينتها تمامًا، لكن كل شيء كان مختلفًا بطريقة مريبة. السماء كانت بلون أرجواني داكن، والشمس كانت تبدو كقرص من الزمرد الأخضر. المباني كانت مألوفة، لكنها متوهجة بخطوط ذهبية، والأشجار كانت تصدر ألحانًا خافتة كأنها تغني.
بدأت تمشي في الشوارع، وهي تحاول استيعاب هذا العالم الغريب. لاحظت أن الناس هنا يشبهون سكان مدينتها، لكن ملامحهم كانت أكثر إشراقًا وأعينهم تتوهج بضوء خافت. فجأة، رأت نسخة أخرى من نفسها، مروى أخرى، تجلس في مقهى وتضحك مع أصدقاء لم ترهم من قبل. شعرت برعشة تسري في جسدها؛ هل هو حلم أم حقيقة؟
حاولت مروى الاقتراب من النسخة الأخرى، لكن قدمًا غريبة إعترضتها. وجدت أمامها كائنا يشبه الإنسان لكنه بأذنين طويلتين وعينين لامعتين كالجواهر. قال لها بصوت هادئ لكنه عميق: "أنتِ لستِ من هنا، أليس كذلك؟"
هزت رأسها بخوف وارتباك. قال الكائن: "هذا العالم موازي لعالمك، لكنه ليس مكانًا يجب أن تبقي فيه طويلًا. كل دقيقة تقضينها هنا تغيّر شيئًا في عالمك الحقيقي."
سألته مروى بصوت مرتجف: "كيف أعود؟ ثم لماذا أنا هنا أصلا؟"
ابتسم الكائن ابتسامة غامضة وقال: "الشجرة هي المفتاح، لكنها ستفتح لك الباب فقط إذا أثبتِّ أنكِ تفهمين الفرق بين العالمين."
---
على مدار الأيام التالية، تجوّلت مروى في هذا العالم، محاولًة فهم قوانينه الغريبة. لاحظت أن الناس هنا يعيشون بتناغم تام مع الطبيعة، لا صراعات ولا قلق. لكن رغم الجمال الظاهر، شعرت بشيء غير مريح، كأن كل شيء مثالي أكثر مما يجب.
في أحد الأيام، اكتشفت مكتبة قديمة مليئة بالكتب التي تحكي عن عوالم متعددة. عثرت على كتاب يحكي عن الشجرة التي عبرت من خلالها. قرأت فيه أن الشجرة ليست مجرد بوابة، بل هي اختبار. إذا أراد شخص العودة إلى عالمه، عليه أن يواجه نفسه الحقيقية.
أدركت مروى أن عليها مواجهة النسخة الأخرى منها. ذهبت إلى المقهى حيث رأت نفسها أول مرة. عندما اقتربت، نظرت النسخة الأخرى إليها وابتسمت قائلة: "كنتُ أنتظرك."
جلستا معًا وتحدثتا لساعات. اكتشفت مروى أن هذه النسخة منها هي تجسيد لكل ما كانت تخشاه أو ترغب فيه. كانت أقوى، أكثر ثقة، وأكثر حرية. قالت لها النسخة الأخرى:
"لكي تعودي، عليكِ أن تقبلي بكل جوانبك، الجيد والسيئ. لا يمكن أن تهربي من نفسك إلى الأبد."
---
بعد المواجهة، عادت مروى إلى الشجرة ووضعت يدها على لحائها. شعرت بطاقة تسري في جسدها، وعندما فتحت عينيها، وجدت نفسها في غرفتها. كل شيء بدا عاديًا، لكن مروى شعرت أنها تغيرت. أصبح العالم الحقيقي أقل رتابة، وأكثر جمالًا.
لم تخبر أحدًا بما حدث، لكنها تعلمت درسًا عميقًا: أحيانًا، علينا أن نرى أنفسنا من زاوية مختلفة لنفهم حقيقتنا.
.


الخميس، 23 يناير 2025

🟡 الطفل الذي لا يكبر (قصة قصيرة)

.

 الطفل الذي لا يكبر

.
في إحدى القرى الصغيرة، حيث الحياة هادئة والطبيعة تغمر المكان بجمالها، عاشت عائلة البدراني حياة بسيطة ومستقرة. كان لديهم إبن واحد يُدعى سامي، وُلد في ليلة قمرية مليئة بالنجوم المتلألئة. بدا سامي منذ ولادته طفلًا مختلفًا، فملامحه كانت تحمل براءة غير عادية ونورًا يلفت الأنظار.
كبر سامي عامًا بعد عام كبقية الأطفال، أو هكذا بدا في البداية. لكن حين بلغ الخامسة، توقفت ملامحه عن التغير.
كانت والدة سامي، ليلى، أول من لاحظ الأمر. في عيد ميلاد سامي الخامس، وقفت تتأمل صوره المعلقة على الجدران. كانت جميعها متشابهة، كأن الزمن قد توقف بالنسبة له.
قالت لزوجها أحمد: "ألا تلاحظ أن سامي لا يتغير؟ لقد بقي وجهه كما هو منذ سنوات."
حاول أحمد طمأنتها: "ربما هو مجرد تأخر طبيعي. الأطفال يختلفون."
لكن القلق تسلل إلى قلبيهما.
عندما بلغ سامي العاشرة، ولم يتغير شكله أو طوله أو صوته، قررت العائلة عرضه على الأطباء. أُجريت له عشرات الفحوصات والتحاليل، لكن النتائج كانت صادمة. لم يكن هناك أي خلل جسدي، ولا مرض وراثي يفسر حالته. كان جسده يعمل بشكل طبيعي، لكنه ببساطة توقف عن التقدم في العمر.
"هذه حالة نادرة جدًا... أو ربما غير مسبوقة،" قال أحد الأطباء بحيرة.
عادت العائلة إلى منزلها محمّلة بأسئلة كثيرة دون أيّ جواب.
في البداية، حاولت الأسرة إخفاء الأمر. لكن في قرية صغيرة كهذه، لا يمكن إخفاء الأشياء طويلًا. بدأ الناس يلاحظون أن سامي لم يتغير منذ سنوات. تساءل الجيران: "هل هذا سحر؟ أم لعنة؟"
تحولت النظرات الفضولية إلى همسات وشائعات. بعضهم ظن أن العائلة تخفي سرًّا مظلمًا، وآخرون ظنوا أن سامي هبة من السماء.
لم يكن سامي نفسه يدرك حجم الغرابة في حالته. كان مجرّد طفل يعيش حياته بمرح، لكنه شعر بالعزلة حين بدأ أصدقاؤه يكبرون ويلتحقون بالمدارس الثانوية، بينما ظل هو عالقًا في جسد طفل صغير.
عندما بلغ سامي العشرين – جسديًّا كان لا يزال كما في الخامسة من عمره – قرر أحمد وليلى البحث عن أي تفسير. سمعت العائلة عن شيخ عجوز حكئم يعيش في أعماق الجبال، يُقال إنه يعرف خبايا وأسرار الحياة.
سافروا أيامًا للوصول إليه. وعندما رأى الشيخ سامي، أطلق تنهيدة طويلة وقال: "لقد توقّعت قدومكم."
روى لهم الشيخ قصة قديمة عن "الأطفال النّورانيّين"، وهم أطفال يولدون بقدر خاص، لا يشيخون ولا يموتون إلا إذا اكتمل غرضهم في الحياة. "سامي ليس إنسانًا عاديًا. إنه يحمل رسالة، لكن لا أحد يعرف ماهيّتها. قد يكتشفها بنفسه وقد لا يكتشفها."
عادت العائلة إلى المنزل، لكنها لم تعد كما كانت. أصبحوا يتقبلون وضع سامي كجزء من حياتهم. بدلاً من الحزن على حالته، قرروا دعمه ليكتشف غايته في هذه الحياة.
سامي، رغم كل شيء، بدأ يلاحظ أن وجوده يحمل تأثيرًا عميقًا على من حوله. كان يلهم الناس بالفرح، ويمنحهم الأمل بوجهه الطفولي وضحكته البريئة. أدرك أنه ربما هذا هو قدره: أن يكون رمزًا للنقاء والبراءة في عالم يغرق بالهموم.
مع مرور العقود، أصبح سامي قصة تُروى في القرية وخارجها. لم يعرف أحد سرّه بالكامل، ولم يعرف هو نفسه متى سينتهي زمنه. لكنه عاش كل يوم كما لو كان الأخير، مُثبتًا أن العمر الحقيقي لا يُقاس بالسنوات، بل بما نتركه من أثر في قلوب الآخرين.
.

🔴 عن النشوة الجنسية

عن النشوة الجنسية . .  النشوة الجنسية، ذروة الإثارة الجنسية، هي تجربة معقدة ومتعددة الأوجه تختلف اختلافًا كبيرًا بين الأفراد. وهي تنطوي على ...