الجمعة، 17 يناير 2025

🔴 رحلة تطور العقل البشري: من الأسطورة إلى العلم (مقال)

.

رحلة تطور العقل البشري: من الأسطورة إلى العلم


.

يمثل تطور العقل البشري من حالة الاعتماد على الخرافات والأساطير إلى حالة التوجه نحو التفكير العلمي والمنطقي واحدة من أهم التحولات في تاريخ الحضارة الإنسانية. هذه الرحلة الطويلة والمعقدة شكلت هويتنا كبشر، وأدت إلى التقدم الهائل الذي نشهده في عالم اليوم.

يمثل العقل الخرافي الأسطوري جذور التفكير البشري. ففي بدايات تاريخ وجود الإنسان على الأرض، كان أسلافنا يعتمدون بشكل كبير على الخيال والتخيل لتفسير الظواهر الطبيعية والأحداث التي تحيط بهم. كانت الأساطير والحكايات الشعبية هي الأدوات التي استخدمها الإنسان لتفسير العالم، وشرح أصول الكون، وتبرير الأحداث التي تتجاوز فهمه. كانت هذه الأساطير تحمل في طياتها معتقدات وخرافات حول القوى الخارقة للطبيعة والأرواح والٱلهة. ومن هنا نشأت فكرة الدّين.

ولو بحثنا في مميزات العقل الخرافي الأسطوري سنجد انه يرتكز على أربع أعمدة. أولا، التفسير السحري للظواهر: فقد كان الإنسان يربط بين الأحداث الطبيعية وأفعال الكائنات الخارقة، مثل الآلهة والشياطين. ثانيا، التفكير السحري: وهو مبني على اعتقاد الإنسان بوجود قوى خفية يمكن التحكم فيها من خلال الطقوس والسحر. ثالثا، التفكير الثنائي: حيث يتم التعامل مع العالم حسب تقسيم ثنائي أو ذو قطبين متضادّين (الخير والشر، النور والظلام، والقوى الإيجابية والسلبية...). رابعا، التفكير الرمزي: وهو إستخدام الرموز والأمثال للتعبير عن الأفكار والمعتقدات.

وقد بدأ التحول نحو العقل العلمي بشكل تدريجي، وكان ذلك نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل، لعل اهمّها التطور الاقتصادي (فالحاجة إلى حل المشكلات الاقتصادية، مثل الزراعة والصناعة، هي التي دفعت الإنسان إلى البحث عن تفسيرات منطقية للظواهر الطبيعية) والتطور السياسي (حيث ساهمت الصراعات السياسية والحروب في تطوير العلوم العسكرية والتكنولوجيا، مما أدى إلى تقدم معرفي). وقد ساهم الصراع بين العقلانية والتفكير الديني في التحول التدريجي إلى التفكير العلمي وترجيح كفّته على حساب التفكير الخرافي والأسطوري (مواجهة المنظومات الدينية المتحجّرة بطبيعتها للتفكير العقلاني والعلمي أدّت إلى صراعات وحوارات أثرت على مسار التطور الفكري). كما كان لظهور الفلسفة كمنهج في التفكير وطريقة عقلانية في مساءلة العالم والبحث عن أجوبة للوجود مساهمة كبرى في هذا التحول، فقد ساهمت الفلسفة في تشكيل الأسس المنطقية للتفكير العلمي، وطرحت أسئلة حول طبيعة المعرفة والعالم بعيدا عن الأجوبة الموروثة.

وقد واجهت هذا التحول التحديات كثيرة منها المقاومة الدينية (فقد واجه العلماء مقاومة شديدة من قبل المؤسسات الدينية التي اعتبرت أفكارهم تهديداً لسلطتها ولمصالحها في إخضاع الناس وإستعبادهم والإسترزاق منهم) كما كانت التقاليد والعادات السائدة، (أو لنقل الموروث بصفة عامة) عائقاً كبيرا أمام قبول الأفكار الجديدة. وكان الجهل والخوف من المجهول أيضا يمنعان الكثير من الناس من قبول التفسيرات العلمية.

ويتّسم العقل العلمي بمجموعة من الخصائص المميزة لعل اهمّها الطريقة العلمية المتمثلة في الاعتماد على الملاحظة والتجربة وإعادة التجربة والتحليل المنطقي للوصول إلى نتائج موثوقة، الشيء الذي يستحيل فعله مع مسلّمات التفكير الخرافي والأسطوري والذي أنتج الأديان بكلّ أساطيرها وحكاياتها غير القابلة للتحقق من صحتها. ومن سمات العقل العلمي أيضا الشك والبحث المستمر وعدم القبول بالأفكار المسبقة والمسلمات، والبحث الدائم عن أدلة جديدة. كما يتّسم التفكير العلمي بإعتماده على التجريد والنمذجة، أي بناء نماذج ونظريات لتفسير الظواهر الطبيعية. ومن أسسه أيضا التحقق المستمر وهي الطريقة المثلى للتأكد من صحة النظريات العلمية من خلال تكرار التجارب والاختبارات في اوقات وظروف وأماكن مختلفة. كما يعتمد التفكير العلمي على المنطق والعقلانية في التفكير واتخاذ القرارات، الشيء الذي يجعل نتائجه لصيقة بالعالم والواقع.

وقد ساهم العقل العلمي في تحقيق تقدم هائل في مختلف المجالات، مثل الطب والتكنولوجيا والصناعة. كما أنه شكل الأساس للحضارة الحديثة، وأدى إلى تحسين نوعية الحياة للإنسان. كما مكّن الإنسان من الحصول على معرفة دقيقة عن العالم وفهم الكون والحياة من حولنا بشكل أفضل. إضافة إلى ذلك، تمكّن الإنسان بفضل التفكير العلمي من حل المشكلات التي تواجهه بأكثر نجاعة، فالعقل العلمي يوفر الأدوات اللازمة لحل المشكلات المعقدة التي تواجه البشرية. الشيء الذي أدّى إلى التطور التكنولوجي الذي نراه ونعيشه اليوم والذي كان محرّكه الرئيسي العقل العلمي وليس الخرافات والأساطير، وكذلك الأمر بالنسبة لتحسين صحة الإنسان من خلال تطوير الطب والعلاجات الحديثة أو حماية البيئة وفهم التحديات المرتبطة بها واتخاذ قرارات مستنيرة لحماية كوكب الأرض.

لكن، على الرغم من التقدم الكبير الذي حققه العقل العلمي، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات كبيرة في عصرنا الحالي، مثل انتشار المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة على نطاق واسع والتي تجد لها سوقا رائجة خاصة عندما يقلّ أو ينعدم مستوى التعليم وتنحدر الثقافة ويسيطر الدين بخرافاته وأساطيره على العقول.
التشكيك في العلم هو أيضا من أكبر التحديات التي يواجهها العقل العلمي، فهناك تزايد في التشكيك في العلم ونظرياته، مما يؤثر على اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية ويساهم في إغراق المجتمعات في الجهل والتخلف. كما أن التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام يمكن إعتبارها خطرا يهدد التفكير العلمي، إذ يمكن استخدام التكنولوجيا لأغراض إيجابية وسلبية، مما يطرح تحديات أخلاقية وقانونية. ولعل إنتشار الأديان بسردياتها وخرافاتها وأساطيرها على الأنترنات اليوم أوضح دليل على إخضاع أحد أهم منتجات العقل العلمي وهو الأنترنات لإستغلالها  كأداة لنشر الجهل والتخلف والتفكير السحري والخرافي في المجتمعات. أي إستعمال العلم لنشر الجهل.

إذن، رحلة تطور العقل البشري من العقل الخرافي الأسطوري وصولا إلى العقل العلمي هي قصة طويلة ومعقدة، مليئة بالإنجازات والتحديات. لكن، على الرغم من التحديات التي نواجهها، إلا أن العقل العلمي يظل أهم أداة لدينا لفهم العالم من حولنا وحلّ المشكلات التي تواجهنا. لذلك يجب علينا الاستمرار في تشجيع التفكير النقدي والبحث العلمي، وتعزيز ثقافة العلم في مجتمعاتنا. لعلّ المستقبل يكون أفضل من الحاضر، الذي هو بالتأكيد أفضل بكثير من الماضي.

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

🔴 عن النشوة الجنسية

عن النشوة الجنسية . .  النشوة الجنسية، ذروة الإثارة الجنسية، هي تجربة معقدة ومتعددة الأوجه تختلف اختلافًا كبيرًا بين الأفراد. وهي تنطوي على ...