العودة من القاع
كان يوسف يُلقب بـ"الملك" في أحياء القاهرة الراقية، حيث أسس شركة تكنولوجية ناشئة من شقّة صغيرة بمساعدة زوجته أمينة. بدأ الأمر بفكرة بسيطة عن تطبيق لتنظيم المواصلات، وتحول إلى إمبراطورية تضم 200 موظف. كانت حياته مثالاً للنجاح: فيلا مُطلّة على النيل، سيارات فاخرة، وأطفاله الثلاثة يدرسون في أفضل المدارس الدولية. لكن الأمور لم تكن كما تبدو.
---
**السقوط**
في خريف 2018، قرر يوسف المخاطرة باستثمار كل أرباح الشركة في شركة ناشئة أوروبية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، مُتجاهلاً تحذيرات مديره المالي. حين انهارت البورصة العالمية بسبب جائحة غير متوقعة، تحولت أسهمه إلى رماد. حاول إنقاذ ما تبقى برهن منزله وسياراته، لكن الديون التهمت كل شيء. في غضون أشهر، أُعلنت إفلاس الشركة، وطُرد من مبنى كان يملكه قبل عام.
الأصعب كان نظرة أمينة. "أنت لم تعد الرجل الذي تزوجته"، هكذا قالت وهي تُغادر الغرفة بصمتٍ يُشبه القصاص. لم يبكِ يوسف حين وقّع أوراق الطلاق، لكنه انهار عندما حكمت المحكمة بحرمانه من حضانة أولاده لـ"عدم قدرته على توفير بيئة مستقرة". ابنته الصغيرة لم تفهم، ظلت تسأل: "بابا ليش مش هازورك إلا مرّة في الشهر؟".
---
**الشارع**
أول ليلة قضاها تحت كوبري أكتوبر، أحسّ بأن جسده يُغيّره شيء ما. البرد اخترق معطفه الإيطالي الباهظ، الذي صار أشبه بخرقة. تذكر فجأة كيف كان يمر من هنا سابقاً بسيارته الفارهة، شارداً عن المتسولين. الآن، صار وجهه واحداً من تلك الوجوه التي تُحاول إخفاء عارها خلف صندوق كرتوني.
تعلم فنون البقاء: كيف يحصل على بقايا الطعام من مطعم تركي قبل إغلاقه، وكيف يختار زاوية بعيدة عن عيون العصابات. لكن الذكريات كانت أقسى من الجوع. في إحدى الليالي، بينما كان يلف جسده بأوراق جرائد تُعلن عن إفلاس شركته، رأى صورة أولاده في عيد ميلادهم الأخير. مزّق الصورة، لكن القطع التصقت بذاكرته كوشم.
---
**اللقاء الذي غيّر كل شيء**
ذات صباح بارد، بينما كان يتلقى قطعة خبز من متطوعة في جمعية خيرية، سمع صوتاً مألوفاً: "ياسيدي يوسف؟". التفت ليرى كريم، الشاب الذي كان أول موظف عيّنه في شركته. لم يتكلم كريم كثيراً، أعطاه بطاقة عمله الجديدة في شركة لوجستيات صغيرة. "تعال غداً. حتى لو تنظف الأرضيات، فأنت أفضل من كثيرين".
---
**الصعود من جديد**
بدأ يوسف كعامل نظافة، لكن إتقانه للغة الإنجليزية وإدارته السابقة جعلاه يلفت الأنظار. خلال عام، أصبح مديراً لمشروع صغير. لم يستعد مجده القديم، لكنه استعاد إنسانيته. في إحدى زوايا مكتبه الجديد، وضع صورة أولاده، مع وعد داخلي بأن يراهم عندما يصبح "أباً يستحق".
---
**الرسالة**
بعد خمس سنوات، تلقى رسالة من أمينة: "الولد الكبير يريد دراسة إدارة الأعمال. قال إنه يريد أن يكون مثلك... لكن دون أن يفقد أسرته". في ذلك المساء، وبينما كان يجلس في شقته المتواضعة المليئة بكتب الاستثمار، أدرك أن الهزيمة لم تكن نهاية قصته، بل بداية لفصلٍ كان عليه أن يتعلمه بالطريقة الصعبة: **أن النجاح الحقيقي ليس في ما تبني، بل في من تُصبح بعد أن تخسر كل شيء**.
---
القصة تترك القارئ مع إحساس مُرّ بالواقعية، لكنها تُضيء شمعة صغيرة: فمهما بلغت الخسائر، يبقى في الإنسان قدرة غريبة على النهوض من تحت الرماد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق